سورة الأنفال - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}
اعلم أنه تعالى كما حذر الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه، فكذلك حذره من الفتن، والمعنى: واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح. عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة.
قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وعن السدي: نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل، وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إذ أقبل علي رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله: كيف حبك لعلي، فقال يارسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد فقال: كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله.
فإن قيل: كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟
قلنا: فيه وجهان:
الأول: أن جواب الأمر جاء بلفظ النهي، ومتى كان كذلك حسن إدخال النون المؤكدة في ذلك النهي، كقولك انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك، وكقوله تعالى: {نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] الثاني: أن التقدير: واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، إلا أنه جيء بصيغة النهي مبالغة في نفي اختصاص الفتنة بالظالمين كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص. وقيل لها لا تصيبي الذين ظلموا خاصة، والمراد منه: المبالغة في عدم الاختصاص على سبيل الاستعارة.
ثم قال تعالى: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} والمراد منه: الحث على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب الله.
فإن قيل: حاصل الكلام في الآية أنه تعالى يخوفهم من عذاب لو نزل لعم المذنب وغيره، وكيف يليق برحمة الرحيم الحكيم أن يوصل الفتنة والعذاب إلى من لم يذنب؟
قلنا: إنه تعالى قد ينزل الموت والفقر والعمى والزمانة بعبده ابتداء، إما لأنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبين، وإذا جاز ذلك لأحد هذين الوجهين فكذا هاهنا. والله أعلم.


{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، ثم أمرهم باتقاء المعصية، أكد ذلك التكليف بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، وذلك يوجب عليهم الطاعة وترك المخالفة.
أما بيان الأحوال التي كانوا عليها قبل ظهور محمد فمن وجوه: أولها: أنهم كانوا قليلين في العدد.
وثانيها: أنهم كانوا مستضعفين، والمراد أن غيرهم يستضعفهم، والمراد من هذا الاستضعاف أنهم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس. والمعنى: أنهم كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطفهم العرب، لأنهم كانوا يخافون من مشركي العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، ثم بين تعالى أنهم بعد أن كانوا كذلك قلبت تلك الأحوال بالسعادات والخيرات، فأولها: أنه آواهم والمراد منه أنه تعالى نقلهم إلى المدينة، فصاروا آمنين من شر الكفار.
وثانيها: قوله: {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} والمراد منه وجوه النصر في يوم بدر.
وثالثها: قوله: {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} وهو أنه تعالى أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نقلناكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء، حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة، فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال؟


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه رزقهم من الطيبات، فهاهنا منعهم من الخيانة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بتلك الخيانة على أقوال: الأول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة لما حاصرهم، وكان أهله وولد فيهم. فقالوا يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي أنه الذبح فلا تفعلوا، فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله.
الثاني: قال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم، فيشقونه ويلقونه إلى المشركين، فنهاهم الله عن ذلك.
الثالث: قال ابن زيد: نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون، يظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
الرابع: عن جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه، فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية.
الخامس: قال الزهري والكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إليها، حكاه الأصم.
والسادس: قال القاضي: الأقرب أن خيانة الله غير خيانة رسوله، وخيانة الرسول غير خيانة الأمانة، لأن العطف يقتضي المغايرة.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم، وجعل ذلك خيانة له، لأنه خيانة لعطيته وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمها، فمن خانها فقد خان الرسول، وهذه الغنيمة قد جعلها الرسول أمانة في أيدي الغانمين وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة، والوديعة أمانة في يد المودع، فمن خان منهم فيها فقد خان أمانة الناس، إذ الخيانة ضد الأمانة، قال: ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به، وعلى هذا التقدير: فيدخل فيه الغنيمة وغيرها، فكان معنى الآية: إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال.
وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية، فهي داخلة فيها، لكن لا يجب قصر الآية عليها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: معنى الخون النقص. كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا انتقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء. لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.
المسألة الثالثة: في قوله: {وَتَخُونُواْ أماناتكم} وجوه:
الأول: التقدير {وَلاَ تَخُونُواْ أماناتكم} والدليل عليه ما روي في حرف عبد الله {وَلاَ تَخُونُواْ أماناتكم} الثاني: التقدير: لا تخونوا الله والرسول، فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم، والعرب قد تذكر الجواب تارة بالفاء، وأخرى بالواو، ومنهم من أنكر ذلك.
وأما قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه وجوه:
الأول: وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو.
الثاني: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح، وحسن الحسن، ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد. نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب. فقال: {إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجاباً عن خدمة المولى.
ثم قال: {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تنبيهاً على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في الفوز، وأعظم في المدة، لأنها تبقى بقاء لا نهاية له، فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم. ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أن ما أفضى إلى الأجر العظيم عند الله، فالاشتغال به خير مما أفضى إلى الفتنة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8